فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{تصلى} بضم التاء من الإصلاء: أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر وحماد. الباقون: بالفتح.
{لا يسمع} بضم الياء التحتآنية.
{لاغية} بالرفع: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. وقرأ نافع بتاء التأنيث والرفع. الآخرون: بفتح تاء التأنيث أو الخطاب لكل سامع.
{لاغية} بانصب.
{بمصيطر} بالصاد: أبو جعفر ونافع وعاصم وعلى وخلف.
وقرأ حمزة في رواية بإشمام الزاي. الباقون: بالسين.
{إيابهم} بالتشديد: يزيد.

.الوقوف:

{الغاشية} o ط {خاشعة} o {ناصبة} o ك {حامية} o ك {آنية} o ط لتمام الأوصاف {ضريع} o ط {جوع} o ج للابتداء بعده {ناعمة} o لا {راضية} o لا {عالية} o ج {لاغية} o ط {جارية} o م لئلا يتوهم أن ما بعدها صفة لعين فيكون في الحارية سرور ليس كذلك {مرفوعة} o لا {موضوعة} o لا {مصفوفة} o لا {مبثوثة} o ط {خلقت} o {رفعت} o ك {نصبت} o ط {سطحت} o وقد يوقف على الآيات الأربع لأجل مهلة النظر وإلا فلكل متسقة {مذكر} o ط {بمصيطر} o لا {وكفر} o ك {الأكبر} o ط {إيابهم} o لا {حسابهم} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن في قوله: {هَلْ أَتَاكَ حديث الغاشية} مسألتين:
المسألة الأولى:
ذكروا في {الغاشية} وجوهاً:
أحدها: أنها القيامة من قوله: {يوم يغشاهم العذاب} [العنكبوت: 55] إنما سميت القيامة بهذا الاسم، لأن ما أحاط بالشيء من جميع جهاته فهو غاش له، والقيامة كذلك من وجوه:
الأول: أنها ترد على الخلق بغتة وهو كقوله تعالى: {أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عذاب الله} [يوسف: 107].
والثاني: أنها تغشى الناس جميعاً من الأولين والآخرين.
والثالث: أنها تغشى الناس بالأهوال والشدائد.
القول الثاني: الغاشية هي النار أي تغشى وجوه الكفرة وأهل النار قال تعالى: {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} [إبراهيم: 50] {ومن فوقهم غواش} [الأعراف: 41] وهو قول سعيد بن جبير ومقاتل.
القول الثالث: {الغاشية} أهل النار يغشونها ويقعون فيها والأول أقرب، لأن على هذا التقدير يصير المعنى أن يوم القيامة يكون بعض الناس في الشقاوة، وبعضهم في السعادة.
المسألة الثانية:
إنما قال: {هَلُ أَتَاكَ} وذلك لأنه تعالى عرف رسول الله من حالها، وحال الناس فيها ما لم يكن هو ولا قومه عارفاً به على التفصيل، لأن العقل إن دل فإنه لا يدل إلا على أن حال العصاة مخالفة لحال المطيعين.
فأما كيفية تلك التفاصيل فلا سبيل للعقل إليها، فلما عرفه الله تفصيل تلك الأحوال، لا جرم قال: {هَلْ أَتَاكَ حديث الغاشية}.
أما قوله تعالى: {وُجُوهٌ يومئِذٍ خاشعة عاملة ناصبة} فاعلم أنه وصف لأهل الشقاوة، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
المراد بالوجوه أصحاب الوجوه وهم الكفار، بدليل أنه تعالى وصف الوجوه بأنها {خاشعة} {عاملة} {ناصبة}، وذلك من صفات المكلف، لكن الخشوع يظهر في الوجه فعلقه بالوجه لذلك، وهو كقوله: {وُجُوهٌ يومئِذٍ نَّاضِرَةٌ} [القيامة: 22] وقوله: {خاشعة} أي ذليلة قد عراهم الخزي والهوان، كما قال: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ} [السجدة: 12] وقال: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عليها خاشعين مِنَ الذل ينظرون مِن طَرْفٍ خَفِيّ} [الشورى: 45] وإنما يظهر الذل في الوجه، لأنه ضد الكبر الذي محله الرأس والدماغ.
وأما العاملة فهي التي تعمل الأعمال، ومعنى النصب الدؤوب في العمل مع التعب.
المسألة الثانية:
الوجوه الممكنة في هذه الصفات الثلاثة لا تزيد على ثلاثة، لأنه إما أن يقال: هذه الصفات بأسرها حاصلة في الآخرة، أو هي بأسرها حاصلة في الدنيا، أو بعضها في الآخرة وبعضها في الدنيا.
أما الوجه الأول: وهو أنها بأسرها حاصلة في الآخرة فهو أن الكفار يكونون يوم القيامة خاشعين أي ذليلين، وذلك لأنها في الدنيا تكبرت عن عبادة الله، وعاملين لأنها تعمل في النار عملاً تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال الثقيلة، على ما قال: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً} [الحاقة: 32] وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل بحيث ترتقي عنه تارة وتغوص فيه أخرى والتقحم في حر جهنم والوقوف عراة حفاة جياعاً عطاشاً في العرصات قبل دخول النار في يوم كان مقداره ألف سنة، وناصبين لأنهم دائماً يكونون في ذلك العمل قال الحسن: هذه الصفات كان يجب أن تكون حاصلة في الدنيا لأجل الله تعالى، فلما لم تكن كذلك سلطها الله عليهم يوم القيامة على سبيل العقاب.
وأما الوجه الثاني: وهو أنها بأسرها حاصلة في الدنيا، فقيل: هم أصحاب الصوامع من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والمجوس، والمعنى أنها خشعت لله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب والتهجد الواصب، وذلك لأنهم لما اعتقدوا في الله ما لا يليق به، فكأنهم أطاعوا ذاتاً موصوفة بالصفات التي تخيلوها فهم في الحقيقة ما عبدوا الله وإنما عبدوا ذلك المتخيل الذي لا وجود له، فلا جرم لا تنفعهم تلك العبادة أصلاً.
وأما الوجه الثالث: وهو أن بعض تلك الصفات حاصل في الآخرة وبعضها في الدنيا ففيه وجوه أحدها: أنها {خاشعة} في الآخرة، مع أنها كانت في الدنيا {عاملة ناصبة}، والمعنى أنها لم تنتفع بعملها ونصبها في الدنيا، ولا يمتنع وصفهم ببعض أوصاف الآخرة، ثم يذكر بعض أوصاف الدنيا ثم يعاد ذكر الآخرة، إذا كان المعنى في ذلك مفهوماً فكأنه تعالى قال: وجوه يوم القيامة خاشعة، لأنها كانت في الدنيا {عاملة ناصبة} في غير طاعة الله، فهي إذن {تصلى} ناراً {حامية} في الآخرة.
ثانيها: أنها {خاشعة عاملة} في الدنيا، ولكنها {ناصبة} في الآخرة، فخشوعها في الدنيا خوفها الداعي لها إلى الإعراض عن لذائذ الدنيا وطيباتها، وعملها هو صلاتها وصومها ونصبها في الآخرة هو مقاساة العذاب على ما قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله ما لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] وقرئ {عاملة ناصبة} على الشتم، واعلم أنه تعالى بعد أن وصفهم بهذه الصفات الثلاثة شرح بعد ذلك كيفية مكانهم ومشربهم ومطعمهم نعوذ بالله منها.
أما مكانهم فقوله تعالى: {تصلى نَارًا حامية (4)}: يقال: صلى بالنار يصلى أي لزمها واحترق بها وقرئ بنصب التاء وحجته قوله: {إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} [الصافات: 163] وقرأ أبو عمرو وعاصم برفع التاء من أصليته النار لقوله: {ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ} [الحاقة: 31] وقوله: {ونصلوه جَهَنَّمَ} وصلوه مثل أصلوه.
وقرأ قوم {تصلى} بالتشديد، وقيل: المصلى عند العرب، أن يحفروا حفيراً فيجمعوا فيه جمراً كثيراً، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه، فأما ما يشوى فوق الجمر أو على المقلاة أو في التنور، فلا يسمى مصلى.
وقوله: {حامية} أي قد أوقدت، وأحميت المدة الطويلة، فلا حر يعدل حرها، قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله.
وأما مشروبهم قوله تعالى: {تُسْقَى مِنْ عين آنية (5)} الآني الذي قد انتهى حره من الإيناء بمعنى التأخير.
وفي الحديث: «أن رجلاً أخر حضور الجمعة ثم تخطى رقاب الناس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: آنيت وآذيت» ونظير هذه الآية قوله: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ} [الرحمن: 44] قال المفسرون: إن حرها بلغ إلى حيث لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت.
وأما مطعومهم فقوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضريع (6)}: واختلفوا في أن الضريع.
ما هو على وجوه أحدها: قال الحسن: لا أدري ما الضريع ولم أسمع فيه من الصحابة شيئا.
وثانيها: روى عن الحسن أيضًا أنه قال: الضريع بمعنى المضرع كالأليم والسميع والبديع بمعنى المؤلم والمسمع والمبدع، ومعناه إلا من طعام يحملهم على أن يضرعوا ويذلوا عند تناوله لما فيه من الخشونة والمرارة والحرارة.
وثالثها: أن الضريع ما يبس من الشبرق، وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطباً، فإذا يبس تحامته وهو سم قاتل، قال أبو ذويب:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوي ** وعاد ضريعاً عاد عنه النحائص

جمع نحوص وهي الحائل من الإبل، وهذا قول أكثر المفسرين وأكثر أهل اللغة.
ورابعها: قال الخليل في كتابه: ويقال للجلدة التي على العظم تحت اللحم هي الضريع، فكأنه تعالى وصفه بالقلة، فلا جرم {لا يسمن ولا يغني من جوع}.
وخامسها: قال أبو الجوزاء: الضريع السلا، ويقرب منه ما روي عن سعيد بن جبير أنه شجرة ذات شوك، ثم قال أبو الجوزاء: وكيف يسمن من كان يأكل الشوك! وفي الخبر الضريع شيء يكون في النار شبيه الشوك أمر من الصبر، وأنتن من الجيفة وأشد حراً من النار، قال القفال: والمقصد من ذكر هذا الشراب وهذا الطعام، بيان نهاية ذلهم وذلك لأن القوم لما أقاموا في تلك السلاسل والأغلال تلك المدة الطويلة عطاشاً جياعاً، ثم ألقوا في النار فرأوا فيها ماء وشيئاً من النبات، فأحب أولئك القوم تسكين ما بهم من العطش والجوع فوجدوا الماء حميماً لا يروي بل يشوي، ووجدوا النبات مما لا يشبع ولا يغني من جوع، فأيسوا وانقطعت أطماعهم في إزالة ما بهم من الجوع والعطش، كما قال: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل} [الكهف: 29] وبين أن هذه الحالة لا تزول ولا تنقطع، نعوذ بالله منها.
وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول:
قال تعالى في سورة الحاقة: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هاهنا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36-35] وقال ههنا: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضريع} والضريع غير الغسلين؟
والجواب من وجهين:
الأول: أن النار دركات فمن أهل النار من طعامه الزقوم، ومنهم من طعامه الغسلين، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد، لكل باب منهم جزء مقسوم.
الثاني: يحتمل أن يكون الغسلين من الضريع ويكون ذلك كقوله: مالي طعام إلا من الشاه، ثم يقول: مالي طعام إلا من اللبن، ولا تناقض لأن اللبن من الشاة.
السؤال الثاني:
كيف يوجد النبت في النار؟
الجواب من وجهين:
الأول: ليس المراد أن الضريع نبت في النار يأكلونه، ولكنه ضرب مثله، أي إنهم يقتاتون بما لا يشبعهم أو يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع.
الثاني: لم لا يجوز أن يقال: إن النبت يوجد في النار؟ فإنه لما لم يستبعد بقاء بدن الإنسان مع كونه لحماً ودماً في النار أبد الآباد، فكذا هاهنا وكذا القول في سلاسل النار وأغلالها وعقاربها وحياتها.
أما قوله تعالى: {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جوع (7)} فهو مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع، وأما المعنى ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن طعامهم ليس من جنس مطاعم الإنس، وذلك لأن هذا نوع من أنواع الشوك والشوك مما يرعاه الإبل، وهذا النوع مما ينفر عنه الإبل، فإذن منفعتا الغذاء منتفيتان عنه، وهما إماطة الجوع وإفادة القوة والسمن في البدن.
وثانيها: أن يكون المعنى لا طعام لهم أصلاً لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس لأن الطعام ما أشبع وأسمن وهو منهما بمعزل، كما تقول: ليس لفلان ظل إلا الشمس تريد نفي الظل على التوكيد.
وثالثها: روي أن كفار قريش قالت: إن الضريع لتسمن عليه إبلنا، فنزلت: {لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جوع} فلا يخلو إما أن يتعنتوا بذلك الكلام كذباً فيرد قولهم بنفي السمن والشبع، وإما أن يصدقوا فيكون المعنى أن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم، إنما هو من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع، قال القاضي: يجب في كل طعامهم أن لا يغني من جوع لأن ذلك نفع ورأفة، وذلك غير جائز في العقاب. اهـ.

.قال القرطبي:

{هَلْ أَتَاكَ حديث الغاشية (1)}
(هَلْ) بمعنى قد؛ كقوله: {هَلْ أتى على الإنسان} [الإنسان: 1]؛ قال قُطْرب.
أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية؛ أي القيامة التي تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها؛ قاله أكثر المفسرين.
وقال سعيد بن جُبير ومحمد بن كعب: {الغاشية}: النار تَغْشَى وجوه الكفار؛ ورواه أبو صالح عن ابن عباس؛ ودليله قوله تعالى: {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} [إبراهيم: 50].
وقيل: تَغشَى الخلق.
وقيل: المراد النفخة الثانية للبعث؛ لأنها تَغشَى الخلائق.
وقيل: {الغاشية} أهلُ النار يَغْشَونها، ويقتحمون فيها.
وقيل: معنى {هل أتاك} أي هذا لم يكن من علمك، ولا من علم قومك.
قال ابن عباس: لم يكن أتاه قبل ذلك على هذا التفصيل المذكور هاهنا.
وقيل: إنها خرجت مخرج الاستفهام لرسوله؛ ومعناه إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك؛ وهو معنى قول الكلبيّ.
{وُجُوهٌ يومئِذٍ خاشعة (2)} قال ابن عباس: لم يكن أتاه حديثهم، فأخبره عنهم، فقال: {وُجُوهٌ يومئِذٍ} أي يوم القيامة.
{خاشعة} قال سفيان: أي ذليلة بالعذاب.
وكل متضائلٍ ساكن خاشع.
يقال: خَشَع في صلاته: إذا تذلل ونَكَّس رأسه.
وخَشَع الصوتُ: خفِي؛ قال الله تعالى: {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن} [طه: 108].
والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه.
وقال قتادة وابن زيد: {خاشعة} أي في النار.
والمراد وجوه الكفار كلهم؛ قاله يحيى بن سلام.
وقيل: أراد وجوه اليهود والنصارى؛ قاله ابن عباس.
ثم قال: {عاملة ناصبة} فهذا في الدنيا؛ لأن الآخرة ليست دار عمل.
فالمعنى: وجوه عاملة ناصبة في الدنيا {خاشعة} في الآخرة.
قال أهل اللغة: يقال للرجل إذا دأب في سيره: قد عمل يعمل عملاً.
ويقال للسحاب إذا دام برقه: قد عَمل يعمل عملاً.
وذا سحاب عَمِل.
قال الهذليّ:
حتى شآها كلِيلٌ مَوْهِناً عمِلٌ ** باتت طِرابا وباتَ الليلَ لم يَنَمِ

{ناصبة} أي تعِبة.
يقال: نصب (بالكسر) ينصب نصباً: إذا تعب، ونصباً أيضًا، وأنصبه غيره.
فروى الضحاك عن ابن عباس قال: هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا علي معصية الله عز وجل، وعلى الكفر؛ مثل عَبَدة الأوثان، وكفار أهل الكتاب مثل الرهبان وغيرهم، لا يقبل الله جل ثناؤه منهم إلا ما كان خالصاً له.
وقال سعيد عن قتادة: {عاملة ناصبة} قال: تكبرت في الدنيا عن طاعة الله عز وجل، فأعملها الله وأنصبها في النار، بجر السلاسل الثقال، وحمل الأغلال، والوقوف حُفاة عراة في العَرَصات، في يوم كان مقداره خمسين ألفَ سنة.
قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدنيا، ولم تنصب له، فأعملها وأنصبها في جهنم.
وقال الكلبيّ: يُجَرّون على وجوههم في النار.
وعنه وعن غيره: يُكَلَّفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم، فَينصبون فيها أشدّ ما يكون من النصب، بمعالجة السلاسل والأغلال والخوض في النار؛ كما تخوض الإبل في الوَحَل، وارتقائها في صَعُود من نار، وهبوطها في حَدُور منها؛ إلى غير ذلك من عذابها.
وقاله ابن عباس.
وقرأ ابن محيصن وعيسى وحميد، ورواها عبيد عن شبل عن ابن كثير {ناصبة} بالنصب على الحال.
وقيل: على الذمّ.
الباقون (بالرفع) على الصفة أو على إضمار مبتدأ، فيوقف على {خاشعة}.
ومن جعل المعنى في الآخرة، جاز أن يكون خبراً بعد خبر عن {وجوه}، فلا يوقف على {خاشعة}.
وقيل: {عاملة ناصبة} أي عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة.
وعلى هذا يحتمل وجوه يومئذٍ عاملة في الدنيا، ناصبة في الآخرة، خاشعة.
قال عكرمة والسدّيّ: عملت في الدنيا بالمعاصي.
وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم: هم الرُّهبان أصحاب الصوامع؛ وقاله ابن عباس.
وقد تقدّم في رواية الضحاك عنه.
وروي عن الحسن قال: لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام أتاه راهب شيخ كبير مُتَقَهِّل، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى.
فقال له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمراً فلم يصبه، ورجا رجاء فأخطاهـ.
وقرأ قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يومئِذٍ خاشعة عاملة ناصبة}.
قال الكسائيّ: التقهل: رثاثة الهيئة، ورجل مُتَقَهِّل: يابس الجلد سَيِّيءُ الحال، مثل المتقحل.
وقال أبو عمرو: التقهل: شكوى الحاجة.
وأنشد:
لَعْواً إِذا لاقيته تقهْلاَ

والقَهْل: كفران الإحسان.
وقد قَهَلَ يَقْهَلُ قَهْلاً: إذا أثنى ثناء قبيحاً.
وأقهل الرجل تكلف ما يعيبه ودنس نفسه.
وانقهل ضعف وسقط؛ قاله الجوهري.
وعن علي رضي الله عنه أنهم أهل حَرُورَاءَ؛ يعني: الخوارج الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تَحقِرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يَمرُقون من الدين كما يَمرُق السهمُ من الرَّمِيَّة..». الحديث.
{تصلى نَارًا حامية (4)}: أي يصيبها صِلاؤها وحرّها.
{حامية} شديدة الحرّ؛ أي قد أُوقدت وأُحْميت المدة الطويلة.
ومنه حَمِي النهار (بالكسر)، وحمِي التنور حَمْياً فيهما؛ أي اشتدّ حرّه.
وحكى الكِسائيّ: اشتدّ حَمْيُ الشمس وحَمْوِها: بمعنى.
وقرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب {تصلى} بضم التاء.
الباقون بفتحها.
وقرئ: {تصلى} بالتشديد.
وقد تقدم القول فيها في {إِذَا السماء انشقت} [الانشقاق: 1].
الماورديّ: فإن قيل فما معنى وصفها بالحَمْى، وهي لا تكون إلا حامية، وهو أقل أحوالها، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة؟ قيل: قد اختلف في المراد بالحامية هاهنا على أربعة أوجه:
أحدها: أن المراد بذلك أنها دائمة الحَمْى، ليست كنار الدنيا التي ينقطع حَمْيها بانطفائها.
الثاني: أن المراد بالحامية أنها حِمًى من ارتكاب المحظورات، وانتهاك المحارم؛ كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن لكل ملِك حِمًى، وإن حِمى الله محارمه. ومن يرتع حول الحِمَى يُوشِك أن يقع فيه» الثالث: أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها، أو ترام مُماسَتها؛ كما يحمِي الأسد عَرِينه؛ ومثله قول النابغة:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ** وتتقِي صَولَة المستأسِدِ الحامِي

الرابع: أنها حامية حِمَى غيظ وغضب؛ مبالغة في شدّة الانتقام.
ولم يرد حِمَى جِرْم وذات؛ كما يقال: قد حِميَ فلان: إذا اغتاظ وغضب عند إرادة الانتقام.
وقد بين الله تعالى بقوله هذا المعنى فقال: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} [الملك: 8].
{تُسْقَى مِنْ عين آنية (5)}.
الآني: الذي قد انتهى حَرّه؛ من الإيناء، بمعنى التأخير.
ومنه: «آنيتَ وآذيت».
وآناه يؤنيه إيناء، أي أحره وحبسه وأبطاهـ.
ومنه {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44].
وفي التفاسير {مِنْ عين آنية} أي تناهَى حرها؛ فلو وقعت نقطة منها على جبال الدنيا لذابت.
وقال الحسن: {آنية} أي حرها أدرك؛ أوقِدت عليها جهنم منذ خلقت، فدُفِعوا إليها وِرداً عِطاشا.
وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: بلغت أناها، وحان شربها.
قوله تعالى: {لَّيْسَ لَهُمْ} أي لأهل النار.
{طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضريع} لما ذكر شرابهم ذكر طعامهم.
قال عكرمة ومجاهد: الضريع: نبت ذو شوك لاصق بالأرض، تسميه قريش الشِّبْرِق إذا كان رطباً، فإذا يبِس فهو الضريع، لا تَقْرَبُه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه؛ وهو سُمٌّ قاتل، وهو أخبث الطعام وأشنعه؛ على هذا عامّة المفسرين.
إلا أن الضحاك روى عن ابن عباس قال: هو شيء يَرْمِي به البحر، يسمَّى الضريع، من أقوات الأنعام لا الناس، فإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع، وهلكت هُزْلاً.
والصحيح ما قاله الجمهور: أنه نبت.
قال أبو ذُؤيب:
رَعَى الشِّبرِقَ الريَّانَ حتى إذا ذوي ** وعاد ضريعاً بانَ منه النَّحائصُ

وقال الهُذليّ وذكر إبلاً وسوء مرعاها:
وحُبِسْنَ في هَزْمِ الضريع فكلُّها ** حَدْباءُ دامِيةُ اليدين حَرُودُ

وقال الخليل: الضريع: نبات أخضر مُنتن الريح، يرمي به البحر.
وقال الوالبيّ عن ابن عباس: هو شجر من نار، ولو كانت في الدنيا لأحرقت الأرض وما عليها.
وقال سعيد بن جُبير: هو الحجارة، وقاله عكرمة.
والأظهر أنه شجر ذو شوك حَسْب ما هو في الدنيا.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الضريع: شيء يكون في النار، يشبه الشوك، أشدّ مرارة من الصبرِ، وأنتن من الجيفة، وأحر من النار، سماه الله ضريعاً» وقال خالد بن زياد: سمعت المتوكل بن حمدان يسأل عن هذه الآية {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضريع} قال: بلغني أن الضريع شجرة من نار جهنم، حَمْلها القيح والدم، أشدّ مرارة من الصَّبرِ، فذلك طعامهم.
وقال الحسن: هو بعض ما أخفاه الله من العذاب.
وقال ابن كيسان: هو طعام يَضْرعون عنده ويذِلون، ويتضرعون منه إلى الله تعالى، طلباً للخلاص منه؛ فسمي بذلك، لأن آكله يضرع في أن يُعْفَى منه، لكراهته وخشونته.
قال أبو جعفر النحاس: قد يكون مشتقاً من الضارع، وهو الذليل؛ أي ذو ضراعة، أي من شرِبه ذليل تلحقه ضراعة.
وعن الحسن أيضًا: هو الزُّقوم.
وقيل: هو وادٍ في جهنم.
فالله أعلم.
وقد قال الله تعالى في موضع آخر: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 35 36].
وقال هنا: {إِلا مِن ضريع} وهو غير الغِسلِين.
ووجه الجمع أن النار دَرَكات؛ فمنهم مَنْ طعامه الزُّقوم، ومنهم من طعامه الغِسلين، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصّديد.
قال الكلبيّ: الضريع في درجة ليس فيها غيره، والزقوم في درجة أخرى.
ويجوز أن تُحْمل الآيتان على حالتين كما قال: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44].
القُتَبيّ: ويجوز أن يكون الضريع وشجرة الزقوم نَبتين من النار، أو من جوهر لا تأكله النار.
وكذلك سلاسل النار وأغلالُها وعقاربها وحَياتها، ولو كانت على ما نعلم ما بقيت على النار.
قال: وإنما دلنا الله على الغائب عنده، بالحاضر عندنا؛ فالأسماء متفقة الدلالة، والمعاني مختلفة.
وكذلك ما في الجنة من شجرها وفرشها.
القُشَيريّ: وأمثل من قول القُتَبيّ أن نقول: إن الذي يُبقي الكافرين في النار ليدوم عليهم العذاب، يُبقي النبات وشجرة الزقوم في النار، ليعذب بها الكفار.
وزعم بعضهم أن الضريع بعينه لا يَنْبت في النار، ولا أنهم يأكلونه.
فالضريع من أقوات الأنعام، لا من أقوات الناس.
وإذا وقعت الإبل فيه لم تشبع، وهلكت هزلاً، فأراد أن هؤلاء يقتاتون بما لا يشبعهم، وضرب الضريع له مثلاً، أنهم يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع.
قال الترمذي الحكيم: وهذا نظر سقيم من أهله وتأويل دنيء، كأنه يدل على أنهم تحيروا في قدرة الله تعالى، وأن الذي أنبت في هذا التراب هذا الضريع قادر على أن ينبته في حريق النار، جعل لنا في الدنيا من الشجر الأخضر ناراً، فلا النار تُحْرِق الشجر، ولا رطوبة الماء في الشجر تُطْفئ النار؛ فقال تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ} [يس: 80].
وكما قيل حين نزلت: {وَنَحْشُرُهُمْ يوم القيامة على وُجُوهِهِمْ} [الإسراء: 97]: قالوا: يا رسول الله، كيف يمشون على وجوههم؟ فقال: «الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يُمْشِيهم على وجوههم» فلا يتحير في مثل هذا إلا ضعيف القلب.
أو ليس قد أخْبرَنا أنه {كُلما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء: 56]، وقال: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50]، وقال: {إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكالاً} [المزمل: 12] أي قُيوداً.
{وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} [المزمل: 12 13] قيل: ذا شوك.
فإنما يتَلوّن عليهم العذاب بهذه الأشياء.
{لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جوع (7)}
يعني الضريع لا يسمن آكله. وكيف يَسْمن من يأكل الشوك! قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن إبلنا لتسمن بالضريع، فنزلت: {لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جوع}.
وكَذَبوا، فإن الإبل إنما ترعاه رَطْباً، فإذا يبس لم تأكلْه.
وقيل: اشتبه عليهم أمره فظنوه كغيره من النبت النافع، لأن المضارعة المشابهة.
فوجدوه لا يسمن ولا يغني من جوع. اهـ.